الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
«يقول الله تبارك وتعالى: وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي».وأخرج أحمد، وغيره عن البراء بن عازب مرفوعًا «أوثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله».وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر» وفي رواية: «ولا لفاسق علي يدًا ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت فيما أوحيت إلي {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ}».وحكى الكواشي عن سهل أنه قال: من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعًا سلبه الله تعالى حلاوة السنن، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضًا منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب انتهى.ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة وليس منهم ولا قلامة ظفر يوالي الظلمة بل من لا علاقة له بالدين منهم وينصرهم بالباطل ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول: سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته إن كانت بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته، وهذا لعمري هو الضلال البعيد، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء {وَلَوْ كَانُواْ} أي من حادّ الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبل باعتبار لفظها {ءابَاءهُمُ} أي الموادين {أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فإن قضية الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن يهجروا الجميع بالمرة، وليس المراد بمن ذكر خصوصهم وإنما المراد الأقارب مطلقًا، وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم، وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون لهم:
وختم بالعشيرة لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الإخوان غالبًا: وقرأ أبو رجاء وعشائرهم بالجمع {أولئك} إشارة إلى الذين لا يوادونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحمًا بهم وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ} أي أثبته الله تعالى فيها ولما كان الشيء يراد أولًا ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبدأ بالمنتهى للتأكيد والمبالغة، وفيه دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان فإن جزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعًا، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه.وقرأ أبو حيوة، والمفضل عن عاصم {إِنَّ كتاب} مبنيًا للمفعول {الايمان} بالرفع على النيابة عن الفاعل.{وَأَيَّدَهُمْ} أي قواهم {بِرُوحٍ مّنْهُ} أي من عنده عز وجل على أن من ابتدائية، والمراد بالروح نور القلب وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق، وتسميته روحًا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية، وجوز كونه استعارة، وقول بعض الأجلة: إن نور القلب ما سماه الأطباء روحًا وهو الشعاع اللطيف المتكون في القلب وبه الإدراك فالروح على حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى، أو المراد به القرآن على الاحتمالين السابقين، واختيرت الاستعارة أو جبريل عليه السلام وذلك يوم بدر، وإطلاق الروح عليه شائع أقوال.وقيل: ضمير {فِيهِ} للإيمان، والمراد بالروح الإيمان أيضًا، والكلام على التجريد البديعي فمن بيانية أو ابتدائية على الخلاف فيها، وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر؛ وقوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ} إلخ بيان لآثار رحمته تعالى الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة.{جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} أبد الآبدين، وقوله تعالى: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ} استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار رحمته عز وجل العاجلة والآجلة، وقوله تعالى: {وَرَضُواْ عَنْهُ} بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلًا وآجلًا، وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله} تشريف لهم ببيان اختصاصهم به تعالى، وقوله سبحانه: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين، والكلام في تحلية الجملة بإلا.وإن على ما مر في أمثالها، والآية قيل: نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه.أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أفعلت يا أبا بكر؟» قال: نعم، قال: «لا تعد»، قال: والله لو كان السيف قريبًا مني لضربته وفي رواية لقتلته فنزلت {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا} الآيات.وقيل: في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح، أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو نعيم في (الحلية)، والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت {لاَّ تَجِدُ} الخ، وفي (الكشاف) أن أبا عبيدة قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقال الواقدي في قصة قتله إياه: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجالًا من بني فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل ظهور الإسلام انتهى.والحق أنه قتله في بدر، أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: كان أي أبو عبيدة قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره ونهاه فلم ينته، وقيل: نزلت فيه حيث قتل أباه.وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أكون في الرعلة الأولى وهي القطعة من الخيل قال: «متعنا بنفسك يا أبا بكر ما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد.وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر.وفي علي كرم الله تعالى وجهه وحمزة وعبيدة بن الحرث قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر.وتفصيل ذلك ما رواه أبو داود عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما كان يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز إلى قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحرث» فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.هذا ورتب بعض المفسرين {وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعلي كرم الله تعالى وجهه ومن معه، وقيل: إن قوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا} إلخ نزل في حاطب بن أبي بلتعة، والظاهر على ما قيل: إنه متصل بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود؛ وأيًا مّا كان فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى، والله تعالى أعلم. اهـ. .قال ابن عاشور: وجملة {كتب الله لأغلبن}علة لجملة {أولئك في الأذلين} أي لأن الله أراد أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم غالبًا لأعدائه وذلك من آثار قدرة الله التي لا يغلبها شيء وقد كتب لجميع رسله الغلبة على أعدائهم، فغلبتهم من غلبة الله إذ قدرة الله تتعلق بالأشياء على وفق إرادته وإرادة الله لا يغيّرها شيء، والإِرادة تجري على وفق العلم ومجموع توارد العلم والإِرادة والقدرة على الموجود هو المسمى بالقضاء.وهو المعبر عنه هنا بـ {كتب الله} لأن الكتابة استعيرت لمعنى: قضى الله ذلك وأراد وقوعه في الوقت الذي علمه وأراده فهو محقق الوقوع لا يتخلف مثل الأمر الذي يراد ضبطه وعدم الإِخلال به فإنه يكتب لكِي لا ينسى ولا ينقص منه شيء ولا يجحد التراضي عليه.فثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم الغلبة لشمول ما كتبه الله لرسله إياه وهذا إثبات لغلبة رسوله أقوامًا يحادُّونه بطريق برهاني.فجملة {لأغلبن} مصوغة صيغة القول ترشيحًا لاستعارة {كتب} إلى معنى قضى وقدر.والمعنى: قضى مدلول هذه الجملة، أي قضى بالغلبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكأن هذه الجملة هي المكتوبة من الله.والمراد: الغلبة بالقوة لأن الكلام مسوق مساق التهديد.وأما الغلبة بالحجة فأمر معلوم.وجملة {إن الله قوي عزيز} تعليل لجملة {لأغلبن} لأن الذي يغالب الغالب مغلوب.قال حسان:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}كان للمنافقين قرابة بكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان نفاقهم لا يخفى على بعضهم، فحذر الله المؤمنين الخالصين من موادّة من يعادي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ورُويت ثمانية أقوال متفاوتة قوة أسانيد استقصاها القرطبي في نزول هذه الآية وليس يلزم أن يكون للآية سبب نزول فإن ظاهرها أنها متصلة المعنى بما قبلها وما بعدها من ذم المنافقين وموالاتهم اليهود، فما ذكر فيها من قصص لسبب نزولها فإنما هو أمثلة لمقتضى حكمها.وافتتاح الكلام بـ {لا تجد قومًا} يثير تشويقًا إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم.والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادّة من يعلم أنه محادّ الله ورسوله هي مما ينافي الإِيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبسًا بها.فالكلام من قبل الكناية عن السعي في نفي وجدان قوم هذه صفتهم، من قبيل قولهم: لا أَرَيَنَّك هاهنا، أي لا تحضر هنا.ومنه قوله تعالى: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18] أراد بما لا يكون، لأن ما لا يعلمه الله لا يجوز أن يكون موجودًا، وكانت هذه عادة المؤمنين قبل الهجرة أيام كانوا بمكة.وقد نقلت أخبار من شواهد ذلك متفاوتة القوة ولكن كان الكفر أيامئذٍ مكشوفًا والعداوة بين المؤمنين والمشركين واضحة.فلما انتقل المسلمون إلى المدينة كان الكفر مستورًا في المنافقين فكان التحرز من موادّتهم أجدر وأحذر.والمُوادّة أصلها: حصول المودّة في جانبين.والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودّة، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتبارًا بأن شأن الودّ أن يجلب وُدًّا من المودود للوادّ.وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الودّ صادقًا لأن الوادَّ الصادق يقابله المودود بمثله.ويعرف ذلك بشواهد المعاملة، وقرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يقل الله هنا {إلا أن تتقوا منهم تقاة} [آل عمران: 28]، لأن المودة من أحوال القلب فلا تُتَصور معها التقية، بخلاف قوله: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} إلى قوله: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} [آل عمران: 28].
|